فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [31].
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أي: بالتستر والتصون عن الزنى كما تقدم. قال الزمخشري: النساء مأمورات أيضاً بغض الأبصار. ولا يحل للمرأة أن تنظر إلى الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبته. وإن اشتهت غضت بصرها رأساً. ولا تنظر من المرأة إلا إلى مثل ذلك. وغض بصرها من الأجانب أصلاً، أولى بها وأحسن. ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة. فأقبل ابن أم مكتوم. وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب. فدخل علينا. فقال: «احتجبا». فقلنا: يا رسول الله! أليس أعمى لا يبصرنا! قال: «أفعميَاوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟» وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال الزمخشري: الزينة ما تزينت به المرأة من حليّ أو كحل أو خضاب. فما كان ظاهراً منها، كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب، فلا بأس بإبدائه للأجانب. وما خفي منها كالسوار والخلخال، والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين. وذكر الزينة دون مواقعها، للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر. لأن هذه الزِّيَنْ واقعة على مواضع من الجسد، لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء. وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن. فنهى عن إبداء الزِّيَن نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل لها لملابستها تلك المواقع، بدليل أن النظر لها غير ملابسة لها، لا مقال في حله- كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظْر ثابت القدم في الحرمة، شاهداً على أن النساء حقهنّ أن يحتطن في سترها ويتَّقين الله في الكشف عنها.
فإن قلت: لم سومح مطلقاً في الزينة الظاهرة؟
قلت: لأن سترها فيه حرج. فإن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح. وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها. وخاصة الفقيرات منهن. وهذا معنى قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني: إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره، والأصل فيه الظهور. انتهى.
وقال السيوطي في الإكليل: فسر ابن عباس قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالوجه والكفين، كما أخرجه ابن أبي حاتم. فاستدل به من أباح النظر إلى وجه المرأة وكفيها، حيث لا فتنة. ومن قال: إن عورتها ما عداهما. وفسره ابن مسعود بالثياب، وفسر الزينة بالخاتم والسوار والقرط والقلادة والخلخال. أخرجه ابن أبي حاتم أيضاً. فهو دليل لمن لم يجز النظر إلى شيء من بدنها، وجعلها كلها عورة: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي: وليسترن بمقانعهن، شعورَهن وأعناقهن وقرطهن وصدورهن، بإلقائها على جيوبهن أي: مواضعها، وهي النحر والصدر.
قال الزمخشري: كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها. وكنّ يسدلن الخمر من ورائهن، فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها. ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور، تسمية بما يليها ويلابسها، ومنه قولهم: ناصح الجيب.
لطيفة:
قال أبو حيان: عدّي يضربن بعلى لتضمنه معنى الوضع. وجعله الراغب مما يتعدى بها دون تضمين. والخمر: جمع خمار يقال لغة لما يستر به. وخصصه العرف بما تغطي به المرأة رأسها. ومنه اختمرت المرأة وتخمرت. والجيب ما جيب، أي: قطع من أعلى القميص. وهو ما يسميه العامة طوقاً. وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها، فليس من كلام العرب. كما ذكره ابن تيمية. كذا في العناية ثم كرر النهي عن إبداء الزينة لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه، باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور، بقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} أي: فإنهم المقصودون بالزينة. ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج. لكن بكراهة على المشهور.
وقال الإمام أبو الحسن بن القطان في كتاب إحكام النظر: عن أصبغ، لا بأس به، وليس بمكروه. وروي عن مالك لا بأس أن ينظر إلى الفرج في الجماع. ثم ذكرنا أن ما روي من أن ذلك يورث العمى، فحديث لا يصح. لأن فيه بقية وقد قالوا بقية أحاديثه نقية ولم يؤثر عن العرب كراهة ذلك. وللنابغة والأعشى وأبي عبيدة وابن ميادة وعبد بني الحساس والفرزدق، في ذلك ما هو معروف.
وقوله تعالى: {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} أي: لأن هؤلاء محارمهن الذين تؤمن الفتنة من قبلهم. فإن آباءهن أولياؤهن الذي يحفظونهن عما يسوءهن. وآباء بعولتهن يحفظون على أبناءهن ما يسوءهم. وأبناؤهن شأنهم خدمة الأمهات، وهم منهن. وأبناء بعولتهن شأنهم خدمة الآباء وخدمة أحبابهم. وإخوانهن هم الأولياء بعد الآباء. وبنوهم أولياء بعدهم. وكذا بنو أخواتهن، هم كبني إخوانهن في القرابة فيتعيرون بنسبة السوء إلى الخالة. تعيرهم بنسبته إلى العمة. هذا ما أشار له المهايمي.
وأجمل ذلك الزمخشري بقوله: وإنما سومح في الزينة الخفية أولئك المذكورون، لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالفتهم. ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفرة عن ممارسة القرائب. وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. وقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قيل: هن المؤمنات. أخذاً من الإضافة. فليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية. وقيل: النساء كلهن. فإنهن سواء في حل نظر بعضهن إلى بعض.
قال في الإكليل: فيه إباحة نظر المرأة إلى المرأة كمحرم. وروى ابن أبي حاتم عن عطاء، أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قدموا بيت المقدس، كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات.
وقال الرازيّ: القول الثاني هو المذهب وقول السلف الأول محمول على الاستحباب والأوْلى.
وقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أي: لاحتياجهن إليهم. فلو منع دخولهم عليهن اضطررن. قاله المهايميّ. وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء. وإليه ذهب قوم. قالوا: لا بأس عليهن في أن يظهرن لعبيدهن من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن. واحتجوا أيضاً بما رواه أبو داود عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها. قال: وعلى فاطمة ثوب، إذا قنعت به رأسها، لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها، لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأس. إنما هو أبوك وغلامك».
وجاء في تاريخ ابن عساكر أن عبد الله بن مسعدة كان أسود شديد الأدمة. وقد كان وهبه النبيّ صلوات الله عليه لابنته فاطمة. فربّته ثم أعتقته، ثم كان، بعدُ مع معاوية على عليّ. نقله ابن كثير، فاحتمل أن يكون هو هو. والله أعلم.
وذهب قوم إلى أنه بذلك الإماء المشركات، وأنه يجوز لها أن تظهر زينتها إليهن وإن كن مشركات. قالوا: وسرّ إفراد الإماء مع شموله قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} لهن الإعلام بأن المراد مَنْ في صحبتهن من الحرائر والإمام لظهور الإضافة في نسائهن بالحرائر. كقوله: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، فعطفن عليهن ليشاركنهن في إباحة النظر عليهن، والقول الأول أقوى. لأن الأصل هو العمل بالعامّ حتى يقوم دليل على تخصيصه. لاسيما والحكمة ظاهرة فيه وهي رفع الحرج. وهذا الذي قطع به الشافعيّ وجمهور أصحابه.
قال في الإكليل: وعلى الأول استدل بإضافة اليمين على أنه ليس لعبد الزوج النظر. واستدل من أباحه بقراءة: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
وقوله: {أَوِ التَّابِعِينَ} أي: الخدام لأنهن في معنى العبيد: {غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ} أي: الحاجة إلى نساء: {مِنَ الرِّجَالِ} كالشيخ الهرم والبله واستدل بهذا من أباح نظر الخصيّ. وقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي: لم يفهموا أحوالهن، لصغرهم. فيستدل به على تحريم نظر المراهق الذي فهم ذلك كالبالغ. كما في الإكليل.
قال الزمخشري: يظهروا إما من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه، أي: لا يعرفون ما العورة، ولا يميزون بينها وبين غيرها. وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرآن أخذه وأطاقه أي: لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء. والطفل مفرد وضع موضع الجمع بقرينة وصفه بالجمع. ومثله الحاج بمعنى: الحجاج. وقال الراغب: إنه يقع على الجمع.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: استدل بعضهم بقولهم تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا} إلخ على أنه لا يباح النظر للعم والخال، لعدم ذكرهما في الآية. أخرج ابن المنذر عن الشعبيّ وعكرمة، قالا: لم يذكر العم والخال لأنهما ينعتان لأبنائهما، ولا تضع خمارها عند العم والخال.
وقال الرازيّ: القول الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر. وهو قول الحسن البصريّ. قال: لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب. وقال في سورة الأحزاب: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] الآية، ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم. وقد ذكروا هاهنا. وقد يذكر البعض لينبه على الجملة.
ثم قال: في قول الشعبيّ من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر.
ثم أشار تعالى إلى أن الزينة، كما يجب إخفائها عن البصر، يجب عن السمع، إن كانت مما تؤثر فيه ميلاً، بقوله سبحانه: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} أي: الأرض: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ} أي: عن الأبصار: {مِنْ زِينَتِهِنَّ} كالخلخال. وهذا نهي عن ما كان يفعله بعضهن. وذلك من ضرب أرجلهن الأرض ليتحرك خلخالهن فيعلم أنهن متحلين به. فإن ذلك مما يورث الرجال ميلاً إليهن، ويوهم أن لهن ميلاً إليهم.
قال الزمخشري: وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحليّ أبلغ وأبلغ. قيل: وإذا نهي عن استماع صوت حليهن. فعن استماع صوتهن بالطريق الأولى. وهذا سد لباب المحرمات، وتعليم للأحواض الأحسن، لاسيما في مظانّ الريب وما يكون ذريعة إليها.
تنبيه:
قال ابن كثير: يدخل في هذا النهي كل شيء من زينتها كان مستوراً، فتحركت بحركة، لتظهر ما خفي منها. ومن ذلك ما ورد من نهيها عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشم الرجال طيبها. فروى الترمذي عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل عين زانية. والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا». يعني زانية.
قال: ومن الباب عن أبي هريرة. وهذا حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود والنسائي. وروى الترمذي أيضاً عن ميمونة بنت سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرافلة في الزينة في غير أهلها، كمثل ظلمة يوم القيامة، لا نور لها». ومن ذلك أيضاً، نهيهن من المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج. فروى أبو داود عن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: «استأخرن، فإنه ليس لَكُنَ أن تَحْقُقْنَ الطريق. عليكن بحافات الطريق». فكانت المرأة تلصق بالجدار، حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} أي: ارجعوا إليه بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه، فإن مقتضى إيمانكم ذلك: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: لكي تفوزوا بسعادة الدارين. ولما زجر تعالى عن السفاح ومباديه القريبة والبعيدة، أمر بالنكاح. فإنه، مع كونه مقصوداً بالذات من حيث كونه مناطاً لبقاء النوع، خير مزجرة عن ذلك. فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [32].
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} أي: زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح غلمانكم وجواريكم، والخطاب للأولياء والسادات، والأيامى: جمع أيّم. من لا زوجة له أو لا زوج لها. يكون للرجل والمرأة يقال: آم وآمَتْ وتَأَيَّمَا، إذا لم يتزوجا، بكرين كانا أو ثيبين.
قال أبو السعود: واعتبار الصلاح في الأرقاء، لأن من لا صلاح له منهم، بمعزل من أن يكون خليقاً بأن يعتني مولاه بشأنه، ويشفق عليه، ويتكلف في نظم مصالحه بما لابد منه شرعاً وعادةً، من بذل المال والمنافع. بل حقه ألا يستبقيه عنده. وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر، فلأن الغالب فيهم الصلاح. على أنهم مستبدون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم. فإذا عزموا النكاح، فلابد من مساعدة الأولياء لهم؛ إذ ليس عليهم في ذلك غرامة، حتى يعتبر في مقابلتها غنيمة عائدة إليهم. عاجلة أو آجلة: وقيل: المراد هو الصلاح للنكاح والقيام بحقوقه. وقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إزاحة لما عسى يكون وازعاً من النكاح من فقر أحد الجانبين. أي: لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة. فإن في فضل الله عز وجل غنية عن المال. فإنه غاد ورائحٌ. يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب. أو وعد من سبحانه بالإغناء. لكنه مشروط بالمشيئة. كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28]، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي: غني ذو سعة، لا يرزؤه إغناء الخلائق، إذ لا نفاذ لنعمته ولا غاية لقدرته {عَلِيمٌ} يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة. انتهى كلام أبي مسعود.
تنبيهات:
الأول: الأمر في الآية للندب. لما علم من أن النكاح أمر مندوب إليه. وقد يكون للوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك.
وفي الإكليل: استدل الشافعيّ بالأمر على اعتبار الوليّ. لأن الخطاب له، وعدم استقلال المرأة بالنكاح. واستدل بعموم الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط، ونكاح العبدة الحرة. واستدل بها من قال بإجبار السيد على نكاح عبده وأمته.
الثاني: قدمنا أن قوله تعالى: {يُغْنِهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} مشروط بالمشيئة. فلا يقال إنه تعالى لا يخلف الميعاد، وكم من متزوج فقير. والتقيد بالمشيئة بدليل سمعي، وهو الآية المتقدمة. أو إشارة قوله تعالى: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} لأن مآله إلى المشيئة. أو عقلي وهو أن الحكيم لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة.
قال الناصر في الانتصاف: ولقائل أن يقول: إذا كانت المشيئة هي المعتبرة في غنى المتزوج، فهي أيضاً المعتبرة في غنى الأعزب، فما وجه ربط وعد الغني بالنكاح، مع أن حال الناكح منقسم في الغنى على حسب المشيئة. فمن مستغن به، ومن فقير، كما أن حال غير الناكح منقسم؟.
فالجواب، وبالله التوفيق: إن فائدة ربط الغنى بالنكاح، أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها، والغفلة عن المسبّب، جلَّ وعلا. حتى غلب الوهم على العقل فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتماً، وعدمها سبب يوجب توفير المال جزماً. وأن كل واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به. فأريد قلع هذا الخيال المتمكن من الطبع، بالإيذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه، مع كثرة العيال التي هي سبب من الأوهام، لنفاد المال. وقد يقدر الإملاق مع عدمه، الذي هو سبب في الإكثار عند الأوهام. والواقع يشهد لذلك بلا مراء. فدل ذلك قطعاً على أن الأسباب التي يتوهمها البشر، مرتبطات بمسبباتها، ارتباطاً لا ينفك- ليست على ما يزعمونه. وإنما يقدر الغنى والفقر مسبب الأسباب. غير موقوف تقدير ذاك إلا على مشيئة خاصة. وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من النكاح. لأنه قد استقر عنده أن لا أثر له في الإقتار. وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه، ولا يؤثر أيضاً الخلوّ عن النكاح لأجل التوفير، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتّر عليه. وأن العبد إن تعاطى سبباً فلا يكن ناظراً إليه، ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس. فمعنى قوله حينئذ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} الآية، أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله. فعبر عن نفي كونه مانعاً، من الغنى، بوجوده معه. ولا يبطل المانعية إلا وجود ما يتوهم ممنوعاً مع ما يتوهم مانعاً ولو في صورة من الصور على أثر ذلك. فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، فإن ظاهر الأمر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة، وليس ذلك بمراد حقيقة. ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة، وبيان أن الصلاة متى قضيت، فلا مانع. فعبّر عن نفي المانع بالانتشار، بما يفهم تقاضي الانتشار مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع. والله أعلم.
فتأمل هذا الفصل واتخذه عضداً حيث الحاجة إليه. انتهى.
الثالثة: في الإكليل: استدل بعضهم بهذه الآية على أنه لا يفسخ النكاح بالعجز عن النفقة، لأنه قال: يغنهم الله ولم يفرق بينهم.
ثم أرشد تعالى العاجزين عن أسباب النكاح، إلى ما هو أولى لهم، بعد بيان جواز مناكحة الفقراء، بقوله سبحانه: